فصل: تفسير الآيات (19- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 22):

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
قلت: {بضاعة}: حال من المفعول، أي: وأخفوه مبضعاً به للتجارة. و{لنعلمه}: عطف على محذوف، أي: مكناه في الأرض ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه. إلخ. و{دراهم}: بدل من (ثمن). قال الهروي: الأَشُدَّ: من خمسة عشر إلى أربعين سنة. وهو جمع شدة، مثل: نعمة وأنعم، وهي: القوة والجلادة في البدن والعقل. اهـ.
يقول الحق جل جلاله: {وجاءت سيارة}؛ رفقة تسير من مدين إلى مصر، فنزلوا قريباً من الجب، وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. {فأرسلوا واردَهم} الذي يرد الماء، ويستقي لهم، وهو: مالك بن ذعر الخزاعي، {فأدلى دلوه} أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف، فلما رآه، {قال يا بشرى هذا غلام}؛ نادى البشرى، بشارة لنفسه، أو لقومه، كأنه قال: تعالِ هذا أوانك. وقيل: اسم لصاحبه، ناداه ليعينه على إخراجه فأخرجوه، {وأسروه} أي: أخفاه الوارد، وأصحابه عن الرفقة، وقالوا: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه بمصر، حال كونه {بضاعة}؛ أي: متاعاً مبضعاً به للتجارة، أي: يباع ويتجر بثمنه. {والله عليم بما يعملون} لم يخف عليه اسرارهم.
{وشَرَوه} أي: باعه السيارة من الرفقة، أو إخوته، فيكون الضمير راجع لهم. رُوي أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام، فأتاه يومئذٍ فلم يجده فيها، وأخبر إخوته فأتوا الرفقة، وقالوا: هذا غلامنا فاشتروه، وسكت يوسف خوفاً من أن يقتلوه. أو اشتروه من إخوته؛ لأن شرى قد يستعمل بمعنى اشترى. فاشتراه الرفقة منهم {بثمن بَخْسٍ}؛ أي: مبخوس، لزيفه أو نقصانه، {دراهم مَعدودةٍ} قليلة، فإنهم يَزنُون ما بلغ الأوقية، ويعدُّون ما دونها. قيل: كان عشرين درهماً. وقيل: اثنين وعشرين. رُوي أن الذي اشتراه منهم مالك بن ذعر المتقدم، وكان صعلوكاً، فسأل يوسف أن يدعو له فدعا له فصار غنياً. رُوي أنه قال لهم: بكم تبيعونه؟ فقالوا له: إن اشتريته بعيوبه بعناه لك. فقال: وما عيوبه؟ فقالوا: سارق كذاب، يرى الرؤيا الكاذبة. فقال لهم: بكم تبيعونه لي مع عيوبه؟ ويوسف عليه السلام ينظر إليهم ولا يتكلم، وهو يقول في نفسه: ما أظنه يقوم بثمني؛ لأنهم يطلبون أموالاً كثيرة. قال لهم مالك: معي دراهم قليلة تعد ولا توزن، فقالوا له: هاتها. فاشتراه منهم بتلك الدراهم المعدودة. قال ابن عباس: كانت سبعة عشر درهماً، جعل له ذلك جزاء لما قوم نفسه، وظن أنهم يطلبون في الأموال. اهـ. {وكانوا فيه من الزاهدين}: الراغبين عنه. يحتمل أن يكون الضمير لإخوته، وزهدهم فيه ظاهر. أو يكون للرفقة فإن بائعين كانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق.
قال الفراء: لما اشتراه منهم مالك، قال لهم: اكتبوا لي كتاباً بخطكم بأنكم بعتم مني هذا الغلام بكذا وكذا، فكتبوا له ذلك، فلما أراد الرحيل قالوا له: اربطه لئلا يهرب، فلما همَّ بربطه قال له يوسف: خلني أودِّع ساداتي؛ فَلَعَلَّي لا ألقاهم بعد هذا اليوم.
فقال له مالك: ما أكرمك من مملوك، حيث يفعل بك هذا وأنت تتقرب منهم. فقال له يوسف: كل أحد يفعل ما يليق به، فقال له: دونك، فقصدهم وهُم قيام صفاً واحداً، فلما دنا منهم بكوا وبكى يوسف عليه السلام، ثم قالوا: والله لقد ندمنا يا يوسف على ما فعلنا، ولولا الخشية من والدنا لرددناك. اهـ. ثم ذهبوا به إلى مصر فباعوه، فاشتراه العزيز الذي كان خزائن مصر. واسمه: قطفير، وكان المَلِك يومئذٍ ريان بن الوليد العلقمي، وقد آمن بيوسف، ومات في حياته.
{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} راعيل، أو زليخا، {أكرمي مثواه}؛ اجعلي مقامه عندنا كريماً، والمعنى: أحسني تعهده، {عسى أن ينفعنا} في ضِياعنا وأموالنا، نستظهر به في مصالحنا، {أو نتخذه ولداً} أي: نتبنَّاه، وكان عقيماً، لما تفرس فيه من الرشد. ولذلك قيل: (أفرس الناس عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت: {ياأبت استأجره} [القصص: 26]، وأبو بكر حين استخلف عمر).
قال البيضاوي: رُوي أنه اشتراه العزيز وهو ابن تسع عشرة سنة، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. واختلف فيما اشتراه به مَنْ جعل شراءً غير الأول، فقيل: عشرون ديناراً، وزوجاً نعل، وثوبان أبيضان. وقيل: ملؤه أي وزنه فضة، وقيل: ذهباً. اهـ. وقيل: مسكاً وحريراً.
{وكذلك مكَّنَّا ليوسف في الأرض} أي: وكما مكنا محبته في قلب العزيز، أو كما مكناه في منزله، أو كما أنجيته، وعطفنا عليه العزيز مكناه في الأرض، ليتصرف فيها بالعدل، {ولنُعلِمَهُ من تأويل الأحاديث}؛ أي: من تأويل كتب الله المتقدمة، أو من تأويل الأحكام الحادثة بين الناس ليحكم فيها بالعدل، أو من تعبير المنامات، ليستعد لها قبل حلولها. أي: كان القصد في إنجائه وتمكينه: إقامته العدل، وتْيسير أمور الناس، وليعلَمَ معاني كُتب الله وأحكامه فينفذها، {والله غالبٌ على أمره}: لا يرده شيء، ولا ينازعه فيما يريد جبار، ولا عنيد، أو غالب على أمر يوسف، فيدبر أمره بالحفظ والرعاية، والنصر والعز في عاقبة أمره، خلاف ما أراد به إخوته، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن الأمر كله بيده، أو لا يفهمون لطائف صنعه، وخفايا لطفه.
{ولما بلغ أشده}؛ منتهى اشتداد جسمه، وكمال عقله. وتقدم تفسير الهروي له، وحده. وقيل: ما بين الثلاثين والأربعين، {آتيناه حكماً}: حكمة، وهي النبوة. أو العلم المؤيد بالعمل. أو حُكماً بين الناس بالعدل.
{وعلماً} يعني: علم تأويل الأحاديث، أو علماً بأسرار الربوبية، وكيفية آداب العبودية. {وكذلك نجزي المحسنين} إذا كمل عقلهم، وتوفر آدابهم، وكمل تهذيبهم، آتيناهم الحكمة وكمال المعرفة. وفيه تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه وإتقانه عمله في عنفوان شبابه.
اَلإشارة: من ظن انفكاك لطف الله عن قدره؛ فذلك لقصور نظره، لاسيما لطفه بالمتوجهين إليه، أو العارفين به الواصلين لحضرته. فكل ما ينزل بهم فإنما هو أقدار جارية، وأمداد سارية، وأنوار بهية، وألطاف خفية، تسبق لهم الأنوار قبل نزول الأقدار، فلا تحول حول قلوبهم الأكدار، ولا تغير قلوبَهم رؤية الأغيار، عند نزول شدائد الأقدار، يحفظ عليهم أسرار التوحيد، وينزل عليهم أنوار التأييد، عند نزول القضاء الشديد، والبلاء العتيد، ولابن الفارض رضي الله عنه:
أَحبائِي أَنتُم أَحْسَنَ الدَّهرُ أم أَسا ** فَكُونُوا كما شِئتُمُ أَنا ذَلك الخِل

وقال صاحبه العينية:
تَلَذُّ لِي الآلام إذ كُنتَ مُسْقِمَِي ** وإن تَختَبِرني فَهْي عَندي صَنَائِعُ

تَحِكَّم بِِما تَهواهُ فيَّ فإِنَّني ** فَقِيرٌ لسُلطَان المَحَبَّة طَائِعُ

وقد جرت عادة الله تعالى أن يعقب الجلال بالجمال، والمحن بالمنن، والذل بالعز، والفقر بالغنى، فبقدر ما تشتد المحن تأتي بعدها مواهب المنن، ما ينزل من الجلال يأتي بعده الجمال، سُنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. لا راد لما قضى، ولا معقب لما به حكم وأمضى.
قال تعالى: {والله غالبٌ على أمره}: قال بعض المفسرين: هذه الآية هي قطب هذه السورة، ثم قال: أراد آدم البقاء في الجنة، وما أراد الله ذلك، فكان الأمْر مُراد الله. وأراد إبليس أن يكون رأس البررة الكرام، وأراد الله أن يكون إمام الكفرة اللئام، فكان الأمر كما أراد الله. وأراد النمرود هلاك إبراهيم عليه السلام، ولم يرده الله، فكان الأمر كما أراد الله. وأراد فرعون هلاك موسى عليه السلام، فأهلكه الله، ونجى موسى. وأراد داود أن يكون الملك لولده ميشا، وأراد الله أن يكون لسليمان عليه السلام، فكان كما أراد الله. وأرد أبو جهل هلاك سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوة الوليد بن المغيرة، فأهلك الله أبا جهل ونبأ محمداً صلى الله عليه وسلم. وأراد المنذر بن عاد البقاء في الدنيا، فأهلكه الله وخرب ملكه. وأراد إرم العاتي، الذي بنى ذات العماد، يحاكي بها الجنة، أن يسكنها خالداً فيها، فكذبه الله، وحال بينه وبينها، وغيبها عنه حتى مات بحسرتها. اهـ.

.تفسير الآيات (23- 29):

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}
قلت: المراودة: المطالبة، من راد يرود: إذا جاء وذهب لطلب الشيء، ومنه الرائد. و{هيت}: اسم فعل معناه: تعال، أو أقبل، مبني على الفتح كأين، واللام للتبيين، كالتي في سقيا لك، وقرأ ابن كثير: بالضم، تشبيهاً بحيث، ونافع وابن عامر بالفتح، وهي لغة فيه. وقرئ: {هئْت} بالهمز؛ كجئت، من هَاءَ يهيء: إذا تهيأ. و{معاذ الله}: مصدر لمحذوف، أي: أعوذ بالله معاذاً. و{إنه}: ضمير الشأن. و{لولا}: حرف امتناع، وجوابها محذوف، أي: لخالطها، ولا يجوز أن يكون {وهمَّ بها}: جوابها؛ لأن حكمها حكم الشرط، فلا يتقدم عليها جوابها. قاله البيضاوي.
قلت: وبهذا يُرد على من وقف على {همت به}، كالهبطى، ومن تبعه، إلا أن يُحمل على أنه ابتداء كلام مع حذف الجواب. واستحسنه البعض؛ ليكون همُّ يوسف خارجاً عن القسم، {وكذلك}: في موضع المصدر، أي: ثبتناه مثل ذلك التثبيت لنصرف.. إلخ، و{المخلصين} بالفتح: اسم مفعول من: أخلصه الله. وبالكسر: اسم فاعل بمعنى أخلص دينه لله.
يقول الحق جل جلاله: {وراودتْه} للفاحشة، أي: تمحلت وطلبت منه أن يوافقها {التي هو في بيتها}؛ وهي زليخا. وترك التصريح بها؛ استهجاناً. فراودته عن نفسه، {وغلقتِ الأبوابَ}، قيل: كانوا سبعة. والتشديد للتكثير، أو للمبالغة في الإيثاق، {وقالت هَيت لك} أي: أقبل وبادر، أو تهيأتُ لك. رُوي أنها تزينت بأحسن ما عندها، وقالت: تعالى يا يوسف، {قال مَعَاذَ الله}؛ أي: أعوذ بالله معاذاً، {إنه} أي: الشأن، {ربي أحسن مثواي}؛ سيدي أحسن إقامتي وتربيتي، إذ قال لك أكرمي مثواي، فما جزاؤه أن أخونه في أهله، أو أنه تعالى ربي أحسن مَنزلي؛ بأن عطف عَلَيَّ قلبَ سيدي، ولطف بي في أموري، فلا أعصيه، {إنه لا يُفلح الظالمون}؛ المجاوزون الإحسان إلى الإساءة، أو الزناة؛ فإن الزنى ظلم على الزاني والمزنيّ بأهله.
{ولقد هَمَّتْ به وهمَّ بها}، قال ابن جزي: أكْثََرَ الناسُ الكلامَ في هذه الآية، حتى ألفوا فيها التآليف، فمنهم مفرط ومُفرّط؛ وذلك أن منهم من جعل هَمَّ المرأة وهَمَّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته. وذكروا من ذلك روايات من جلوسه بين رجليها، وحله للتكَّة، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به؛ لضعف نقله ولنزاهة الأنبياء عن مثله، ومنهم من قال: همت به لتضربه على امتناعه، وهَمَّ بها ليقتلها أو يضربها؛ ليدفعها. وهذا بعيد يرده قوله: {لولا أن رأى برهان رَبِّهِ}. ثم قال: والصواب إن شاء الله: أنها همت به من حيث مرادُها، وهَمَّ بها كذلك، لكنه لم يعزم على ذلك، ولم يبلغ إلى حد ما ذكر من حل التكَّة، بل كان همه خطرة خطرت على قلبه، ولم يتابِعها، ولكنه بادر إلى التوبة والإقلاع عن تلك الخطرة، حتى محاها من قلبه، لمَّا رأى برهان ربه.
ولا يقدح هذا في عمة الأنبياء؛ لأن الهم بالذنب لبس بذنب، ولا نقص في ذلك؛ لأنَّ من هَمَّ بذنب ثم تركه كتب له حسنة. اهـ.
قلت: وكلامه حسن؛ لأن الخطرات لا طاقة للبشر على تركها، وبمجاهدة مخالفتها فُضِّل البشر على جنس الملائكة، وقال البيضاوي: والمراد بهمه: ميل الطبع، ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل، لمن يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفته، كقوله: قتلته لو لم أخف الله. اهـ. ومثله في تفسير الفخر، وأنه مال إليها بمقتضى الطبع، ومُنع منه بصارف العصمة، كالصائم يشتاق الماء البارد ويمنعه منه صومه. ومثله أيضاً في لطائف المنن: همت به هَمَّ إرادة، وهَمَّ بها هَمَّ ميل لا هَمَّ إرادة. قال المحشي الفاسي: وفيه نظر؛ لأن ذلك لا يتصور في النفوس المطمئنة. وإنما ذلك شأن أرباب التلوين والمجاهدة، دون أهل التمكين والمشاهدة، وخصوصاً الأنبياء؛ إذ صارت نفوسهم مشاكلة للروح، مندرجة فيها، ولذلك صارت مطمئنة، وميلها حينئذ إنما يكون للطاعة، وأما غير الطاعة، فهي بمنزلة القذر والنتن تشمئز منه، ولا يتصور بحال ميلها إليه. ثم أطال الكلام في ذلك.
قلت: أما تفسير الهم بالميل فلا يليق بالنفس المطمئنة. وأما تفسيره بالخاطر فيتصور في المطمئنة وغيرها. وإنما سماه الله تعالى هماً في حق يوسف عليه السلام؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لعلو منصبهم، وشدّة قربهم من الحضرة، يشدد عليهم في مطالبة الأدب، فيجعل الخاطر في حقهم هَمّاً وظناً. كما قال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف: 110] فيمن خفف الذال، أو كما قال تعالى في حق يونس عليه السلام: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه} [الأنبياء: 87]؛ على أحد التفاسير. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: {لولا أن رأى برهانَ ربه} لخالطها. والبرهان الذي رأى: قيل: ناداه جبريل: يا يوسف تكون في ديوان الأنبياء، وتفعل فعل السفهاء. وقيل: رأى يعقوب عاضاً على أنامله، يقول: إياك يا يوسف والفاحشة. وقيل: تفكر في قبح الزنى فاسبتصر. وقيل: رأى زليخا غطت وجه صنمها حياءً منه، فقال: أنا أولى أن أستحي من ربي. {كذلك} أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه؛ {لِنَصْرِِفَ عنه السّوءَ}؛ خيانة السيد، {والفحشاءَ}، الزنى؛ {إنه من عبادنا المخلَصين} الذين أخلصناهم لحضرتنا. أو من الذين أخلصوا وجهتهم إلينا.
{واسْتَبَقَا البَابَ} أي: تسابقا إلى الباب، وابتدرا إليه، وذلك أن يوسف عليه السلام فرَّ منها؛ ليخرج حيث رأى البرهان، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج، {وقَدّت قميصَه من دُبُرٍ} أي: شقت قميصه من خلف لما اجتذبته لترده. والقدُّ الشق طولاً، والقَطُّ: الشق عرضاً، {وألفيا سيدها}: وصادفاً زوجها {لدى الباب}؛ وفيه إطلاق السيد على الزوج، وإنما أفرد الباب هنا، وجمعه في قوله: {وغلقت الأبواب} لأن المراد هنا الباب البراني الذي هو المخرج من الدار.
{قالتْ} لزوجها: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يَسجن أو عذابٌ أليم}؟ قالته إيهاماً أنها فرت منه؛ تبرئة لساحتها عند زوجها، وإغراء له عليه؛ انتقاماً لنفسها لما امتنع منها. {قال هي راودتني عن نفسي}: طالبتني بالمواقعة بها. قال ذلك تبرئة لساحته، ولو لم تكذب عليه ما قاله.
{وَشَهِدَ شاهدٌ من أهلها}، قيل: ابن عمها. وقيل: ابن خالها صبياً في المهد. وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف. وكونه لم يتكلم قط، ثم تكلم كرامة ليوسف عليه السلام، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «تكلم في المهد أربعةٌ: ابنُ ماشِطة ابنة فرعَون، وشَاهِدُ يُوسفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْج، وعيسَى» وذكر مسلم في صحيحه في قصة الأخدود: «أن امرأة أتِي بها لتُطْرَح في النار، ومعها صبي يرضع، فقال لها: يا أمه اصبري، لا تجزعي. فأنك على الحق». وعَدَّ بعضهم عشرة تكلموا في المهد، فذكر إبراهيم عليه السلام، ويحيى بن زكريا، ومريم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وطفلاً في زمنه عليه السلام، وهو: مبارك اليمامة، وقد نظمهم السيوطي، وزاد واحداً، فقال:
تكلم في المَهدِ النَّبيُّ مُحَمدٌ ** ويحيى وعيسى والخليلُ ومريمُ

وصَبِيّ جُريْجٍ ثم شاهِدُ يوسِفُ ** وطِفلٌ لدى الأُخدود يَرويهِ مُسلِمُ

وطفلٌ عَلَيهِ مُرَّ بالأمَةِ الَّتي ** يُقالُ لَها تَزنِي ولا تَتَكَلَّمُ

وماشِطَةٌ فِي عَهدِ فرعون طِفلُها ** وفي زَمَنِ الهادي المُبَاركُ تُختَمُ

وذكر ابن وهب عن أبي لهيعة قال: بلغني أن المولود فيما تقدم كان يولد في الليل، فيصبح يمشي مع أمه. اهـ. وضعف ابن عطية كون شاهد يوسف صبياً بالحديث: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، وبأنه لو كان الشاهد صبياً لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص. اهـ. وقد يجاب بأن الحصر باعتبار بني إسرائيل، مع أن الوحي يتزايد شيئاً فشيئاً، فأخبر بثلاثة، ثم أخبر بآخرين، وبأن الاستدلال وقع بهما تحقيقاً للقضية.
ثم ذكر الحق تعالى ما قاله الشاهد، فقال: {إن كان قميصُه قُدَّ من قُبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين}؛ لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قُدامه بالدفع عن نفسها. أو لأنه أسرع خلفها فعثر بذيله فانقدَّ جَيبُه. {وإن كان قميصُه قُدَّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين}؛ لأنها جذبته إلى نفسها حين فرَّ منها. والجملة الشرطية محكية بالقول، أي: قال: إن كان... إلخ. وتسميتها شهادة؛ لأنها أدت مؤداها. والجمع بين {إنْ} و{كان} على تأويل: إن يعلم أنه كان، ونحوه، ونظيره: قولك: إن أحسنت إليَّ فقد أحسنت إليك من قبل.
فإن معناه: إن تمنن علي بإحسانك امنن عليك بإحساني. ومعناه: إن ظهر أنه كان قميصه... إلخ.
{فلمّا رأى} زوجُها قميصَ يوسف {قُدَّ من دُبرٍ قال إنه} أي: قَوْلُكِ: {ما جزاء...} إلخ. {من كَيدِكُنَّ}؛ من حيلتكن. والخطاب لها ولأمثالها ولسائر النساء. {إنَّ كيدَكُنَّ عَظيم}؛ لأن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب، وأشد تاثيراً من النفس والشيطان؛ لأنهن يواجهن به الرجال، والنفس والشيطان يوسوسان مسارقة. ثم التفت العزيزُ إلى يوسف وقال: {يوسفُ} اي: يا يوسف. وحذف النداء؛ إشارة إلى تقريبه وملاطفته، {أعرضْ عن هذا} الأمر واكتمه، ولا تذكره، {واستغفري} يا زليخا {لذنبك إنك كنت من الخاطئين}؛ من القوم المذنبين من خطأ؛ إذا أذنب متعمداً. والتذكير للتغليب. قاله البيضاوي.
الإشارة: إذا أراد الله أن يصافي عبده بخصوصية النبوة، أو الولاية، كلأه بعين الرعاية، وجذبه إليه بسابق العناية؛ فإذا امتحنه أيَّده بعصمته، وسابق حفظه ورعايته، ولا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية؛ فالشهوة في البشر أمر طبيعي وبمجاهدتها ظهر شرفه. لكن النفس المطمئنة لا تحتاج في دفعها إلى كبير مجاهدة.
والنفس اللوامة لابد في دفعها من المكابدة والمجاهدة؛ فالهواجم والخواطر ترد على القلوب كلها، لكن النفس المطمئنة لها قوة على دفعها، وقد تتصرف فيها بإمضاء ما قدره الله الواحد القهار عليها. {وكان أمرالله قدراً مقدوراُ}. وذلك كمال في حقهم لا نقصان؛ إذ بذلك تتميز قهرية الربوبية من ضعف العبودية، فما ظهرت كمالات الربوبية إلا بظهور نقائص العبودية. أما الإصرار على العيوب فلا يوجد مع الخصوصية مطلقاً، وأما هجومها على العبد من غير إصرار فيكون مع وجود خصوصية النبوة والولاية، وقد تقع بها الزيادة إن صحبها الانكسار والإنابة. وفي الحكم: (ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول). والله تعالى أعلم.
واعلمْ أن ما امتحن به الصديق عليه السلام مع العصمة، قد وقع مثله كثيراً في هذه الأمة المحمدية مع الحفظ والامتناع؛ ذكر الرصاع في كتاب التحفة: أن بعض الطلبة كان ساكناً في مدرسة فاس، فخرجت امرأة ذات يوم إلى الحمام بابنتها، فَتَلَفتْ البنت وبقيت كذلك إلى الليل، فرأت باباً خلفه ضوء، فأتت إليه، فوجدت فيه رجلاً ينظر في كتاب، فقالت: إن لم يكن الخير عند هذا فلا يكون عند أحد. فقرعت الباب، فخرج الرجل فذكرت له قصتها، وأنها خافت على نفسها، فرأى أنه تَعَيَّنَ عليه حفظها، فأدخلها وجعل حصيراً بينه وبينها، وبقي كذلك ينظر في كتابه، فإذا بالشيطان زين له عمله، فحفظه الله ببركة العلم، وفأخذ المصباح، وجعل يحرك أصابعه واحداً بعد واحد حتى أحرقها، والبنت تنظر إليه وتتعجب. ثم خرج ينظر إلى الليل فوجده ما زال، فأحرق أصابع اليد الأخرى، ثم لاح الضوء، فقال: اخرحي، فخرجت إلى دارها سالمة، فذكرت القضية لوالديها، فأتى أبوها إلى مجلس العلم، وذكر القصة للشيخ، فقال للحاضرين: أخرجوا أيديكم وأمنوا على دعائي لهذا الرجل، فأخرجوا أيديهم، وبقي رجل، فعلم الشيخ أنه صاحب القضية، فناداه، فأخبره، فذكر أنه زوجه الأب منها. اهـ. مختضراً.
فمن ترك شيئاً لله عوضه الله مثله، أو أحسن منه. وكذلك فعل الحق تعالى بيوسف عليه السلام قد زوجه زليخاً على ما يأتي إن شاء الله.
وحدثني شيخي مولاي العربي رضي الله عنه، أنه وقف على حكايات تناسب هذا؛ وهو أن رجلاً صالحاً تعلق قلبه بابنة الملك، فلما رأى نفسه أنه لا يقدر على تزوجها تطلف حتى دخل عليها في قبتها ليلاً، فوجدها نائمة على فراشها ملقى على وجهها رداؤها، وشمعة تشعل عند رأسها، وأخرى عند رجلها، وطعام موضوع عندها. فكشف عن وجهها فرأى من الجمال ما أبهر عقله؛ فجعل يتردد في نفسه، ويخاصمها على فعل الفاحشة، فبينما هو كذلك إذ أبصر لوحاً فوق رأسها مكتوباً فيه: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]، فتاب الله تعالى عليه، وزجر نفسه عن هواها، فوضع يده في ذلك الطعام ليأكل منه، وترك فيه؟ أثراً، فلما أفاقت البنت رأت أثر اليد في الطعام، فسألت أهل الدار، فكلهم قالوا: ما دخل عليك أحد منا، فتيقنت أن رجلاً دخل عليها، وكان يخطبها كثيرٌ ممن له الرئاسة والجاه، فخافت على نفسها من أن يطرقها أحد منهم فيغضبها، فقالت لأبيها: لابد أن تروجني، فقال في نفسه: والله لا أزوجها إلا لرجل صالح، فخرج مختفياً إلى المدرسة، فأتى بعض الناس، فقال: سمعت هنا برجل صالح، فأردت أن أزوره، فأشار إلى ذلك الرجل الذي دخل على بنته، ثم سأل ثانياً، وثالثاً، فلكهم أشار إليه، فأتى إليه فقال له: إن لي بنتاً جميلة خطبها مني كثير من الناس، فأردت أن أزوجكها، فجهزها بما يليق بها، وزوجها إياه. اهـ.
وذكر ابن عرضون: إن رجلاً كان بالقيروان من العلماء الأتقياء، يقال له شقران، وكان جميل الصورة فهوته امرأة، فأرسلت إلى عجوز، وأسرت إليها أمره على أن توصله إليها، فأتت إليه العجوز، وقالت: عندي ابنة مريضة، وأرادت أن توصي، وعسى أن تصل إليها، وتدعو لها، فلبس ثيابه، ومشى معها إلى أن وصلت إلى الدار فأدخلته، فوجد صبية جميلة، فقالت له: هلمّ، فقال: إني أخاف الله رب العالمين. فقالت له العجوز: هيهات شقران، والله لئن لم تفعل لأصيحنَّ، وأقول: إنك دخلت علينا عارضتنا، فقال لها: إن كان ولابد فدعيني حتى أدخل الحجرة، فقالت له: افعل ما بدا لك، فدخل الحجرة، فقال: اللهم إنها ما هوت مني إلا صورتي فَغَيَّرها، فخرج من الحجرة وقد ظهر عليه الجذام. فلما رأته، قالت: اخرج فحرج سالماً. وهذه الحكاية مشهورة ببلاد القيروان. اهـ.
قلت: وقد نزل بنا في حال شبابنا كثير مما يشبه هذا، فحفظنا الله بمنّه وكرمه وحسن رعايته. فللَّهِ المنة والحمد، لا أحصي ثناء عليه.